الاعلام العراقي تطوير ام تسقيط ؟
ّ
شهدت العقود الاربعة الماضية من تاريخ العراق اسوأ مرحلة من مراحل كم الافواه والتحجيم الاعلامي بل ويمكن القول ان الاعلام المستقل والصوت الحر قد انقرض الى حد كبير ليصبح التلفاز الواحد والراديو الواحد والصحيفة الواحدة هي وسائل الاعلام المقبولة للتداول من قبل السلطة وليعاقب باقسى العقوبات من يتجرأ على تداول اي مطبوع يخالف راي السلطة او يصدر بلا موافقتها ..ولتصهر اذن من يتجرأ على الاستماع الى اذاعة تعتبرها السلطة محظورة حتى وان حدث ذلك بالصدفة ..وحتى ان كان التشويش على بث الاذاعة يجعل منها ضجيجا لا نفع فيه ولا فائدة منه ..
لقد خلف اعلام السلطة ذي الوجهة الواحدة و الذي هيمن على البلاد طيلة السنوات العجاف من حكم البعث فجوة كبيرة جدا وفراغا هائلا في الذهن العراقي ..
هذا الفراغ الذي كان من المفترض أن يخصص للرأي الاخر الذي يحفظ التوازن والصوت الاخر الذي يجعلنا نميز اصواتنا الحقيقية ..
فلو كانت كل الاصوات في الطبيعة متشابهة كنسخ مكررة لما كنا نستطيع التمييز بين الحسن من السيء من الاصوات ..
بل لما عاد بامكاننا تمييز اصواتنا عن اصوات غيرنا ..
ثمة حاجة ملحة لان يكون هناك اعلام مناويء للسلطة او على الاقل اعلام هادف بعيد عن هيمنتها وجبروتها وتسلطها ...ولكن هذا الوجوب ظل ممتنعا حتى السقوط ..
وبعد ان حدث التغيير السياسي في العراق شهد الاعلام انفجاره الكبير ..
ومثلما انفجر الكون انفجاره الاول مؤذنا برحلة التمدد والتحدب في جميع الاتجاهات بلا نهاية لازلنا نشاهد ان وسائل الاعلام العراقية تنمو وتكثر مبشرة بانفتاح كبير في الاعلام المحلي ومؤذنة بنهاية عصر الاستبداد الاعلامي ونهاية لمرحلة لجم الافواه وتكميم الراي الاخر ..
المثالية لازالت بعيدة طبعا ..بل ان اخلاقيات العمل الاعلامي لا تزال في واد والكثير من وسائل اعلامنا الحالية في واد اخر ..
ان ما يجري في العراق حاليا هو غياب الاعلام المستقل وهذا في حد ذاته على كأداء في طريق الديمقراطية ..
فقيام مؤسسة اعلامية يستلزم اموالا..وبما ان الاقتصاد العراقي لا زال بعيدا عن الاستثمار والشركات الكبرى التي بامكانها ان تكون ممولا كبيرا للاعلام المستقل ..فان الاحزاب والشخصيات السياسية هي التي تقوم بدفع عجلة الاعلام في البلاد من خلال الفضائيات والصحف والراديو عدا عن نوادر اندثرت بسرعة لغياب المال الذي هو شرط لديمومة علمها واستمراراه ..
وعلى الرغم مما قدمته تلك الاموال من دعم كبير وتحريك هائل لعجلة الاعلام فقد تسببت في الوقت نفسه في فقدان الصوت المستقل الذي يكون وجوده ضروريا في اوقات الاحتراب الحزبي واثناء الازمات واشتداد التنافس الانتخابي ..
ناهيك عن ان بعض وسائل الاعلام جنحت بعيدا في الشطط واصبحت في واد والمهنية والضوابط الموضوعية التي تحكم العمل الاعلامي في واد اخر ..
ووصل الامر في احيان كثيرة الى حد ان تصبح الوسيلة الاعلامية او المنبر الاعلامي مجرد الة تجتر الاكاذيب والمغالطات في مسعى يومي حثيث يواصل الليل بالنهار للنيل من جهة او خط او تيار او حزب او شخصية تخالفه الراي والمعتقد او تنافسه المنصب او الحظوة ..
ليت الامر توقف عند هذا الحد بل ان هناك بعض الفضائيات التي تفبرك اكاذيب مفضوحة في حالة من الاستخفاف الشديد بالمشاهد العراقي الذي نعرف جميعا انه صار يملك من المعرفة بخفايا الاعلام وظواهر السياسة اكثر مما يملكه الاخرون في غير العراق ..
العمل الاعلامي في غياب قانون يحكمه وفي ابتعاد الاجراء الحكومي الجاد لدعم مؤسساته المستقلة الناطقة بصوت الحقيقة والتي يحتاج اليها المجتمع في هذه المرحلة اعلام اعرج غير قادر على نقل البلاد الى المرحلة التي يزدهر فيها الاعلام الصادق وتنطلق فيها الكلمة الحق من عقالها ..
الانكى من كل ذلك ان الحكومة لم تقف فقط مكتوفة الايدي عن دعم اي مطبوع مستقل بعيد عن هيمنتها او هيمنة اي من احزاب السلطة سواء الحاكمة او التي هي خارج السلطة بل عمدت الى تحويل القنوات الاعلامية شبه الرسمية الى قنوات حزبية تنطق بلسان بلسان حزب السلطة الحاكم في تجسيد قريب لمنهج حزب البعث الذي كان يسخر جميع امكانات البلد الاعلامية والثقافية لمصلحته الخاصة ..
الديموقراطية التي يغيب عنها الاعلام المستقل مشوهة وغير صادقة وقد تصادرها ارادات الاخرين واهوائهم بسرعه حتى لو كانت صناديق الاقتراع هي التي اوصلتهم الى السلطة ..
وغياب الراي والراي الاخر في حلبة الاعلام المستقل المحايد تترك الخيار مفتوحا لسلسلة من الاكاذيب ولخداع الشارع ومصادرة قضاياه ولقصر يده عن محاسبة المسؤولين عن اخطائهم ..
ان مفهوم الديموقراطية هم ان يكون الشعب رقيبا على اداء حكومته فمتى ما شعر بانها اصبحت غير مفيدة استبدلها باخرى وهكذا ...والاعلام المستقل هو الذي يضمن ان يعرف الناخب ان كان عليه تجديد الثقة باحزابه الحاكمة او تغييرها ..
وبغياب الاعلام المستقل وبتجاهل الحكومة لجميع الاصوات المنادية بضرورة التوجه لانصاف الاعلام ودعم مسيرته والتخفيف عن كاهله نجد انفسنا في حيرة كبرى ان كان ثمة ديمقراطية حقيقية في العراق حاليا ام ان هناك محاولات حثيثة لمنع الاخرين من الوصول الى السلطة بالطريقة التي وصل اليها الحاليون
الكاتب :ـ سعد الكاتب