حسين أبو السباع
يبدو للوهلة الأولى الزحام الشديد لاختصارات الصحف لكل أحداث العام الفائت على صفحاتها؛ تعيد إلى ذاكرتنا الكوارث والنكبات التي ألمّت بنا هذا العام في جميع أنحاء العالم.. عدد الزلازل والبراكين والانهيارات الأرضية والتفجيرات التي أطاحت بالأخضر واليابس بالتواريخ التي لا تعرف الكذب
من دون الولوج في تفاصيل التفاصيل، مجرد حصر لأعداد القتلى والجرحى والموتى من جراء إنفلونزا الطيور، وحوادث المرور، قتلى... قتلى... قتلى... لست أدري لماذا تحتفل الصحف ووكالات الأنباء العالمية بذكر هذا العدد الهائل من أعداد القتلى في كل مكان من العالم؟! في الوقت ذاته يحتفل عدد من القنوات الفضائية -ومع الأسف القنوات العربية منها- باستضافة المنجمين والمشعوذين الذين يتوقعون ما يحدث في العالم هذا العام.
الغريب في الأمر هذا الاحتفاء غير المقبول بمن يسمون أنفسهم علماء التنجيم، والفرق كبير بين علم الفلك والشعوذة القائمة على الخرافة التي أصبحت لدينا قابلية لها ولتأثيرها طالما أن من ضمن الإحصاءات العالمية أن معدل القراءة في العالم العربي للفرد في السنة لا يزيد على ست دقائق، وطغت القراءة الرقمية والكتابة عبر الإنترنت على نظيرتها الورقية.
وفي هذا التوقيت من السنة الميلادية من كل عام يظهر على شاشات الفضائيات مدعو التنجيم والفلك ليرفعوا أناساً عالياً، متوقعين لهم حسن الطالع، ومنزلين آخرين في الدرك الأسفل من السعادة هذا العام، باعتبار أن هذه التوقعات صادقة إلى أبعد حد، ويتم الترويج لكتبهم المعشوذة التي تدعو إلى تغييب العقل من الذهنية العربية القائمة الآن على إحالة كل أمور حياتنا إلى غيبيات؛ مثل الحسد وعين الحسود والعفاريت التي لا نراها، والتي تدمر كل الأشياء المحيطة بنا وغيرها من أنواع الفشل الذي نصاب به، يكون مرد كل ذلك إلى أمور غير علمية وغير منضبطة.
وببساطة لو كان أصحاب أولئك النظرة التنجيمية القائمة على الشعوذة صادقين؟ فما قيمة العمل والاجتهاد والأخذ بالأسباب في كل مناحي الحياة، لو كانوا صادقين لما ذهب أحد إلى عمله ولا إلى دراسته، ولذهبنا جميعاً إلى هؤلاء الدجالين لقراءة ما سيحدث في العام المقبل ولانتهى الأمر بمن سينجح ومن سيرسب من الطلاب، ومن سيزيد راتبه ومن سيغير عمله إلى الأفضل أو إلى الأسوأ، طالما المسألة كذلك فأين من يخبرنا منهم إذا كنا سنتخلف عن الركب الحضاري بفضلهم أم لا؟!
فلا يجرؤ أحد منهم إلا بالكلام عن نجوم التمثيل والغناء والكرة في العالم العربي الذي يحزنني فيه كثيراً أن ينسى قطاع كبير منه اختصاص معرفة الغيب بالله سبحانه (كذب المنجمون ولو صدقوا)، وأن اللجوء إلى أولئك الدجالين ما هو إلا نوع من الاستسلام الطوعي للشعوذة والخرافات التي آثرنا أن تحيط عقولنا بدلاً من العلم القائم على العمل لمحاولة اللحاق بالركب الذي أخذ في التقدم علينا ونحن آخذون في الرجوع إلى الوراء بفضل هذه الأمور غير المقبولة التي يُروَّج لها ترويجاً لا مثيل له، ولم يروج مثله لعالم من علمائنا الذين أحرزوا تقدماً علمياً ما خلال هذا العام.
تتذكر الصحافة العربية أهم الشخصيات الفنية والغنائية والكروية وتنسى أو تتناسى عمداً الشخصيات العلمية التي أفادت بحق البشرية وأفادتنا على وجه الخصوص.
إلى متى سيظل هذا العبث والدجل يلفنا من أجل زيادة الجهل لدى أمة عربية من المحيط إلى الخليج؟
ولمصلحة من يتم هذا التجهيل المتعمد في ظل قراءة لمدة ست دقائق في العالم للإنسان العربي؟ ولماذا تصر صحافتنا على أن تشج رأسنا بالنكبات التي وقعت ونسيناها أو تناسيناها لبشاعتها عند مطلع كل عام؟ وبالمناسبة ليست هذه نظرة متشائمة للواقع العربي المأزوم وإنما هي محاولة لرصد واقع مؤلم؛ لأن التشاؤم في حد ذاته جدير بأن يرجعنا إلى الوراء عشرات الخطوات، وربما المئات.
ليست هذه هي قراءة التاريخ التي نتعلم منها ما يفيدنا في العام المقبل، وإنما هي محاولة لزيادة نسبة الإحباط والخوف واليأس في ظل احتلال أراضينا العربية في العراق وفلسطين، وتناقضات الجماعات الكثيرة جداً التي جاوزت حد الحصر لتدخلنا فيما أسميه (هلاوس الفكر العربي)، اليوم تخرج الفكرة من بين اثنين، وغداً يصف أحدهما الآخر بأنه أفَّاق، من نصدق فيهما خلال العام المقبل على الأقل، الحقيقة المسألة تحتاج حسب -القنوات الفضائية هذه الأيام- إلى منجم؛ لكنني متأكد أنه لن يصدق!