الكاريكاتير في الصحافة العراقية
ضياء الحجار:
توطئة: حار الباحثون في وضع تعريف دقيق لكلمة الفكاهة، وذلك لكثرة الانواع التي تتضمنها واختلافها فيما بينها. اذ تشمل السخرية واللذع والتهكم والهجاء، والنادرة والدعابة والمزاح والنكتة. والتورية والهزل والتصوير الساخر (الكاريكاتير).والسخرية هي ارقى انواع الفكاهة، لما تحتاج من ذكاء، وخفة ومكر، وهي لذلك اداة دقيقة في ايدي الفلاسفة والكتاب والفنانين الذين يهزأون بالخرافات والعقائد المنحرفة والسلوكيات الخاطئة.وقد دخلت السخرية الى معظم الفنون، ومنذ قرون وقرون. ففي الادب العربي القديم نجدها تبتدىء في هجائيات (عبيد بن الابرص) ولا تنتهي في هجائيات (المتنبي) اللاذعة. ذلك في الشعر، كما نراها نثرا في ما خلفه لنا الجاحظ في ما اورده عن البخلاء والمعلمين وغير ذلك. ونجدها في تراث الادب العالمي الروائي ممثلة في روائع الاعمال كرواية (دون كيشوت) للاسباني (سرفانتس) و(النفوس الميتة) و (المفتش) للروسي (غوغول) وفي معظم اعمال الاميركي (مارك توين).
ونجدها في المسرح، منذ القدم في كوميديات (ارسطوفان) التي تجمع بين البذاءة والصخب والفكر الراقي.. الى (موليير) الذي اضاف للكوميديا نغمات من المأساة وسقاها من فكره الواعي الحزين.. كعدو البشر ودون جوان وطرطوف... الخ ونجدها ايضا في كوميديات تشيخوف وبرناردشو وبرخت، وغيرهم.
وتسللت السخرية الى السينما بنت القرن العشرين، فانجبت من خلال هذا الاقتران اعظم الساخرين (شارلي شابلن) الذي بدأ مهرجا وانتهى فيلسوفا ومبدعا من خلال دمجه للضحك والبكاء في اعماله الساخرة.
ومنذ القدم ايضا دخلت السخرية الى فنون التشكيل نحتا ورسما وخزفا الا انها اليوم في الرسم اشد اقترانا لاسباب عديدة لعل اهمها سهولة ممارسة الرسم، وسرعة انجازه وبساطة ادواته وسهولة نقلها قياسا بالنحت والخزف وحتى الحفر.. هذا الاقتران بين السخرية والفنون التشكيلية والمقصود منها الرسم غالبا، انجب (فن الكاريكاتير).
والكاريكاتير بهذا المعنى، فن قديم جدا نشأ بنشوء الانسان على الارض، حيث لازالت كهوف (كامبرل) في فرنسا وكهوف جنوب الجزائر تحتفظ ومنذ ثلاثين الف سنة مضت. على العديد من رسومات انسان العصر الحجري، ذات النزعة الكاريكاتيرية الواضحة.
كما نجد في الاثار الفنية لحضارات وادي الرافدين. كالسومرية والاشورية والبابلية جذورا واضحة للكاريكاتير وكذلك الحال بالنسبة للحضارة الفرعونية وبقية الحضارات القديمة الاخرى كما عرفت الحضارة العربية الاسلامية، الرسم الساخر حيث نجد في رسومات الواسطي الكثير مما يدل على ذلك.
وفي عصر النهضة رسم الفنان دافنشي الكثير من التخطيطات الكاريكاتيرية، ثم انتشر وشاع بعد ذلك في اوروبا.. الا انه لم يوظف في الدعاية والجدل كسلاح، الا في عصر الاصلاح الديني بتأثير (مارتن لوثر) في المانيا.
ومنذ ذلك التاريخ، تعاظمت اهميته وتوسع وانتشر جماهيريا بفضل تطور وسائل الطباعة والصحافة.. كما تطورت مفاهيمه واساليبه تطورا كبيرا في القرن العشرين، فلم يعد فن الاضحاك الخالي من الهدف. كما لم يبق معزولا عن تطورات الحركات التشكيلية وثوراتها. حيث اندمج في خضمها واستوعب بطريقته استلهام جديدها.
ومنذ بدايات القرن العشرين توسع الكاريكاتير وتفرع. ولم تعد الصحف ميدانه الوحيد. فقد دخل السينما والتلفزيون عبر افلام الرسوم المتحركة. مثلما ظهرت رسوم الشرائط الهزلية المصورة (CDMICS) التي تعتمد الكاريكاتير اساساً كما استخدم في تصاميم الاعلانات والعلب والملابس واللعب. ورسوم الكتب المدرسية. ولازال الطريق امام الكاريكاتير مفتوحا للدخول الى مجالات جديدة.
وقد بدأ الاهتمام بالكاريكاتير يتسع عالمياً بعد الحرب العالمية الثانية. حيث يجري توثيقه ودراسته وتقييمه. في العديد من دول العالم كفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة الاميركية وغيرها. كما راحت اغلبية متاحفها الكبيرة تقتني رسوم الكاريكاتير.
رسم الكاريكاتير والصحافة
في عام 1830م اصدر الصحفي والرسام والطباع الفرنسي المشهور (شارل فليبون) اول صحيفة هزلية مصورة في العالم تعتمد الكاريكاتير مادة اساسية فيها.. وقد اسماها (الكاريكاتور) ثم ما لبث ان تبعها باصدار صحيفة كاريكاتيرية اخرى اسماها (شاريفاري)، وبالاضافة الى ما كان ينشره فيهما من رسومه الكاريكاتيرية، فقد استعان بالرسام العبقري (دومييه) في الرسم لهما ايضا.. ومنذ هذا التاريخ بدأت العلاقة بين الكاريكاتير والصحافة بشكلها العصري المعروف تقوى وتشتد وتنتشر سريعا في كل دول العالم.
رسم الكاريكاتير المعاصر في العراق
برغم ان الصحافة دخلت الى العراق في العام 1869 الذي شهد ولادة اول صحيفة عراقية. هي جريدة الزوراء التي اسسها والي بغداد مدحت باشا. ثم ولادة جريدة الموصل عام 1885 وجريدة البصرة عام 1889.. الا ان هذه الصحف لم تكن تنشر صورا ناهيك عن الكاريكاتير وفيما تلا ذلك. وما بين عام 1908 واخريات عام 1933 صدرت في العراق تسعون مجلة ومائتان وثلاث عشرة جريدة بين سياسية وادبية وفكاهية.. فكان مجموع المجلات والجرائد ثلثمئة وثلاث خلال هذه الحقبة.
ومن بين كل هذا العدد الكبير من الصحف والمجلات لم تصدر سوى جريدة كاريكاتيرية واحدة. هي جريدة حبزبوز التي صدر العدد الاول منها في 29 ايلول 1931 وهو وقت متأخر لظهور الكاريكاتير في العراق قياسا بمصر مثلا التي عرفت صحافتها الكاريكاتير منذ اواخر القرن التاسع عشر.
فلماذا تأخر الكاريكاتير في الظهور على صفحات الصحف العراقية كل هذا الوقت الطويل؟
يعزو بعض المهتمين بالكتابة عن تاريخ الصحافة الهزلية والكاريكاتير في العراق اسباب هذا التأخر الى امور عديدة، فـ (روفائيل بطي) يقول ان الشخصية العراقية جادة بطبيعتها بعيدة عن روح الفكاهة، خلافا (مثلا) للشخصية المصرية المطبوعة بالمرح والفكاهة، هذا في الجانب الاجتماعي... اما في الجانب الفني، فيقول، ان الكاريكاتير والكتابة الهزلية بمعناهما العصري. فنانان جديدان في تلك الفترة على العراق.. وعدم ظهورهما مبكرا يعود لعدم توفر الشروط الموضوعية لظهورهما انذاك.
اما جميل الجبوري فيعزو سبب جدية الشخصية العراقية وابتعادها عن روح الفكاهة والمرح الى كثرة ما مر بالعراق من مآس ومحن ونكبات وويلات جراء الغزو والاوبئة والامراض واخطار الفيضانات... مما طبع حياة العراقي بطابع جاد لا يخلو من سمات الحزن والالم مما انعكس على امثال الشعب واقواله واغانيه واهازيجه حتى النكتة العراقية، اتصفت بالغصة المكبوتة والسخرية المريرة.
ومع اتفاقنا التام على صحة هذا الكلام.. لكننا لا يجب ان نغفل اهمية العامل التقني وعدم توفره كسبب رئيسي في تأخر ظهور الكاريكاتير في الصحافة العراقية.
فعندما بدأ هذا الفن بالظهور والانتشار في صحافة العالم المتقدم منذ ثلاثينيات القرن التاسع عشر. كان العراق ولايات عثمانية لم تدخلها المطابع الا في العقود الاخيرة لذلك القرن.. وحتى هذه المطابع كانت حجرية ومتخلفة تكنولوجيا عن مثيلاتها في تركيا وسوريا ولبنان ومصر..
وحتى تطبع المطابع التي كانت موجودة في العراق انذاك صورا او عناوين ثابتة.. كان اصحاب الصحف والمطابع يستعينون بمعامل (الزنكغراف) الموجودة في اسطنبول. وبعدها تلك الموجودة في لبنان لصنع الكلائش لتلك الصور والعناوين.. اذ ان اول (زنكغراف) محلي تأسس في العراق عام 1930، لذلك نلاحظ ان معظم الصحف العراقية قبل العام 1930 كانت شبه خالية من الصور والرسوم.. والقليل المنشور منها كان يكلف اصحاب الصحف غالياً. لان كلائشها تصنع خارج العراق كما ذكرنا..
اذن فخول (الزنكغراف) الى العراق عام 1930 اتاح نشر الصور في الصحف العراقية، وبالتالي وفر الفرصة لظهور الكاريكاتير.. وهذا ما حدث بالفعل.. اذ تأسست اول صحيفة كاريكاتيرية في العراق وهي جريدة حبزبوز عام 1931 اي بعد عام واحد من تأسيس اول معمل للزنكغراف في بغداد وهو معمل (زنكغراف البرق).
وقد توفر مع بداية عقد الثلاثينيات العنصر الفني المتمثل بالرسامين حيث كانت الحركة التشكيلية في العراق قد بدأت تشب متطلعة الى ما حولها للاخذ باسباب التطور والنضوج على ايدي عدد من الفنانين اهمهم عبدالجبار محمود وسعاد سليم وفائق حسن وعطا صبري. وغيرهم وكان الكاريكاتير احد الجوانب التشكيلية التي استهوتهم، حيث شكلت اعمالهم التي نشروها في حبزبوز البدايات الاولى لهذا الفن في العراق.. ولا يفوتنا أن ننوه الى ان المرحوم نوري ثابت نفسه كان ايضا رساما كاريكاتيريا نشر اعماله في جريدته، فكان بحق يكتب ويرسم الكاريكاتير بجدارة.
اول رسم كاريكاتيري في تاريخ الصحافة العراقية كان موضوعه (الانفلات الأمني)!
تطلق صفة (الكاريكاتير الايجازي) على اغلب رسوم الكاريكاتير التي تنشرها الصحف والتي تغطي احداثا او تعلق عليها بتكثيف وايجاز.. ولوحة الكاريكاتير الكاملة مؤلفة بالضرورة من عناصر عدة هي: 1. الخط. 2. الكتلة. 3. الفراغ. 4. اللون. 5. الحركة. 6. المفارقة. 7. المبالغة. 8. الموضوع. 9. المضمون. 10. الهدف. 11. التعليق.
ومن خلال البحث في مجلدات الصحف العراقية القديمة والفكاهية منها بالذات تم التأكد من ان اول رسم كاريكاتير ايجازي عراقي صميم ويحتوي كامل العناصر المذكورة اعلاه. ظهر في الصحافة العراقية هو للفنان (عبدالجبار محمود) نشر على الصفحة الاولى للعدد الاول من جريدة حبزبوز التي اصدرها المرحوم نوري ثابت بتاريخ 1931/9/29، ويصور هذا الرسم الكاريكاتيري شخصا هو (نوري ثابت نفسه الملقب حبزبوز) وقد ظهر بملابس الفرسان ممتطيا (طوب ابو خزامة المشهور فلكلوريا في العراق). وقد حمل بيده قلما طويلا، كناية عن رمح الفارس وكلاهما سلاح. وقد توجه بنظراته وابتسامته الساخرة الى القراء. وفوق الكاريكاتير تعليق هو (سيارة حبزبوز الجديدة وقلمه السيال) وتحت الكاريكاتير حوار من سؤال وجواب.
السؤال موجه لحبزبوز (نوري ثابت) يقول: شنو هاي.
حبزبوز؟ اشو راكب على طوب ابو خزامة؟ تريد تصير مثل سلطان مراد؟!
ويجيب حبزبوز ـ لا مولانا! لكن مادام بنص اوتيل انضرب ست رصاصات فمنا وغادي. قررت بعد ما اركب بعربانة او سيارة... بل اخذت هذا الطوب من وزارة الدفاع حتى اتجول عليه!.. هم المسألة اقتصادية لان معلوم حضرتكم هذا يلهم التراب.. يصير بارود ويلهم الحجار يصير دان (اي قنابل).. اريد رجال اللي يتجدم.
وكان المرحوم (نوري ثابت) قد تعرض قبل ان يصدر جريدته بايام قليلة وبينما كان يجلس في (اوتيل ما شاء الله) الواقع في محلة الحيدرخانة في شارع الرشيد. الى محاولة اغتيال من قبل شخص اطلق عليه الرصاص فأخطأه. ثم فر هارباً.
وواضح ان هذا الرسم يحتوي كامل عناصر الكاريكاتير من خط وكتلة وفراغ وموضوع ويعتمد المفارقات الضاحكة، كما نجد المبالغة واضحة في مفردات الرسم والتعليق وبالنتيجة، فلهذا الكاريكاتير مضمون انتقادي يغمز من قناة الجهات الامنية (انذاك) التي بلغ من ضعفها ان تركت القتلة يسرحون ويمرحون على هواهم.
مما يوجب على المواطن ان يحتاط ويتولى حماية نفسه بنفسه.
وانها لمفارقة حقا ان يبدأ الكاريكاتير اول ما يبدأ مشواره قبل خمسة وسبعين عاما بالتصدي لموضوع التدهور الامني. كما يفعل اليوم وهو يقارع الارهاب والانفلات الامني على صفحات الصحف.
وقبل صدور حبزبوز بسنوات.. كان المرحوم (ميخائيل تيسي) قد اصدر عام 1925 جريدة هزلية سماها (كناس الشوارع) كانت تحمل مع اسمها الثابت، صورة مرسومة لكناس يحمل مكنسته.. وكانت هذه الرسمة.. الصورة الوحيدة في الجريدة.
وتتكرر في كل عدد. وفي كل الاحوال لا يمكن لنا اعتبارها كاريكاتيرا كاملا. لانها علاوة على تواضع رسمها، تفتقر الى عنصر المفارقة، وهي في احسن الاحوال، صورة توضيحية لا غير، مثلها مثل غيرها من الرسوم القليلة التي كانت ترافق عناوين بعض الصحف قبل الثلاثينيات، ويؤكد هذا قول المرحوم الاستاذ صادق الازدي، صاحب مجلة (قرندل).. (قبل صدور حبزبوز في ايلول 1931 كانت الجرائد والمجلات الاسبوعية الضاحكة لا تعرف الصور الكاريكاتيرية الا في بعض عناوينها الثابتة وتقتصر على وجه رجل او امراة. وهكذا شأن بعض الجرائد مثل (كناس الشوارع) والكرخ والكرخي.. والملا.. وجحاا الرومي وغيرها الكثير).
لذا نعود فنؤكد باننا نعتبر تاريخ 1931/9/29 هو يوم ولادة الكاريكاتير العراقي (وهو ايضا تاريخ صدور اول عدد من صحيفة حبزبوز) للاسباب التالية:
1. الرسم الذي نشرته حبزبوز في هذا التاريخ على صدر صفحتها الاولى يعتبر رسما كاريكاتيريا ايجازيا كاملا بالمفهوم العصري. لانه يتضمن عناصر الرسم والموضوع والمفارقة والمبالغة ثم المضمون والهدف. والتي بمجموعها تشكل عناصر الكاريكاتير.
2. قام برسم هذا الكاريكاتير فنان عراقي هو (عبدالجبار محمود).
3. مفردات هذا الرسم الكاريكاتيري وفكرته عراقية خالصة.
4. هذا الكاريكاتير نشر على غلاف العدد الاول من صحيفة عراقية هي حبزبوز في 1931/9/29 ويحدث هذا اول مرة في تاريخ الصحافة العراقية انذاك..
ويؤكد كل ما ذهبنا اليه تولي السيد جميل الجبوري في كتابة (حبزبوز) حين يذكر (لقد كانت حبزبوز) اول جريدة عراقية وظفت الرسوم الكاريكاتيرية فيما تنشره).
وقد لاقت جريدة حبزبوز نجاحا كبيرا ورواجا لم تسبقها اليه صحيفة اخرى بفضل ادخالها للكاريكاتير كمادة جديدة على الصحافة العراقية وبفضل قلم صاحبها ومحررها الساخر الفكه نوري ثابت (رحمه الله) حتى عدت جريدة الشعب الاولى بحق.