عد ظهور الإذاعة تطوراً واضحاً وملموساً ومؤثراً في وسائل الاتصال، فبعد أن سيطرت الصحافة على وسائل الأعلام منذ الثورة الصناعية وظهور المطابع، ظهر على المشهد ما يمكن عده منافسا لها، وهي الإذاعة وما تلاها من مؤسسات أخرى كان لكل منها دوره الكبير في تطور وسائل الأعلام و الاتصالات. ففي عام 1920م ظهرت أول إذاعة في العالم، أما في العراق فقد شهد مطلع الثلاثينيات ظهور أول محطة إذاعة سميت إذاعة قصر الزهور وذلك أثناء حكم الملك غازي الأول رحمه الله (1933-1939) حيث كان يستخدمها لأغراضه الخاصة يلقي منها خطبه للناس ويوصل من خلالها آراءه وأفكاره الوطنية إلى محبيه ومريديه، وقد سميت أيضاً بإذاعة الملك وقد تم تسليمها إلى الحكومة بعد استشهاده في نيسان 1939.
وفي تلك الفترة كان هناك خط آخر لإذاعة رسمية عراقية بدأت البث في تموز 1936 وكانت ملحقة أولا بوزارة المعارف، ثم بوزارة الداخلية قبل أن تلتحق بوزارة الأعلام.
بدأ بث الإذاعة مرتين في الأسبوع ثم أصبح ثلاث مرات وبعدها أربع مرات ولفترة مسائية فقط وهي أمسية الخميس وأمسية السبت والاثنين والأربعاء مدة ساعتين ونصف تبدأ من الساعة السادسة والنصف حتى التاسعة مساءً قبل أن تضاف لها فترة الظهيرة في أيلول عام 1939، وازدياد بث الفترة المسائية لتصبح من الساعة الخامسة والنصف إلى العاشرة والنصف مساءً، وكانت هناك ثلاث نشرات إخبارية أحدهما لفترة الظهيرة والاثنتان للفترة المسائية.
كانت الإذاعة وسيلة إعلامية مهمة جداً وقد نافست الصحف التي كانت منتشرة بأعداد كبيرة آنذاك حتى أن الصحف أخذت تنتقدها وتعدها أداة دعاية للسلطة وهذا ما حدث ويحدث بالفعل فقد كانت ومازالت الإذاعات تعد وسيلة من وسائل دعم السلطة وصوتاً مهماً من أصواتها لما لها من أهمية كونها أحدثت تطوراً في أساليب الاتصال لذلك فهي موضع استغلال دائمي من قبل السلطات – عدا المعارضة منها – (فالراديو كوسيلة إعلامية يمكنه إيصال أي خبر أو واقعة أثناء وقوعها أي بإمكانه نقل وقائع الحدث في لحظة وقوعه، فالراديو بإمكانه إيصال الخبر إلى مسافات واسعة ومناطق شاسعة ونائية.. بحيث أصبح بالإمكان التوجه إلى الرأي العالمي من اجل تكوين رأي عام دولي سائد لموقف اجتماعي أو سياسي أو فكري معين).
تعد الإذاعة العراقية التي تبدل اسمها من محطة الإذاعة إلى دار الإذاعة من أول الإذاعات العربية بعد إذاعة القاهرة التي تأسست في 31/أيار/1934حيث كانت وسيلة إعلامية وتعليمية وترفيهية مهمة ومؤثرة خاصة في الفترات الأولى لظهورها على مسرح الحياة في العراق، يتحدث خالد الراوي عن دور وأهمية الإذاعة العراقية في الثلاثينيات بقوله: في أب/ 1938 بدأت الإذاعة العراقية بثها اليومي وقد أحصي ما تم إلقاؤه من محاضرات عن طريق أثيرها منذ عام 1936 فبلغ نحو (421) محاضرة في مختلف المواضيع حيث اهتمت الإذاعة بالنواحي التعليمية والتثقيفية ما جعل مديريات المعارف تجهز مدارسها بجهاز الراديو وخاصة في القرى والأرياف للاستفادة منه وقد كلفت إدارات المدارس المعلمين الذين يجيدون استخدام الراديو بالإشراف عليه وتوظيفه لمصلحة الطلبة.
وبالنظر لكون الشعب العراقي وكما جاء في الدساتير التي صدرت منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة في 23/8/1921م مكوناً من العرب والأكراد والتركمان فقد تأسس القسم الكردي في الإذاعة عام 1939والقسم التركماني عام 1959، وفي عام 1953 تم افتتاح محطة أبي غريب لغرض تنشيط البث الإذاعي على الموجتين المتوسطة وطولها 392،60م والقصيرة وطولها 25،58 وموجة قصيرة أخرى خاصة للقسم الكردي وطولها 48،90م، ويعد ذلك تطوراً ملموساً في مسيرة الإذاعة العراقية.
الإذاعة في الستينيات
تعد مرحلة الستينات مرحلة انتقالية بين مرحلتين من مراحل الحياة السياسية في العراق أتسمت الأولى بشيّ من الديمقراطية ونوع من التبادل السلمي للسلطة وبحبوحة في الرأي والرأي الآخر، بينما أتسمت الثانية بالدكتاتورية والشمولية والتمسك بالحكم والسلطان بعيدا عن رغبة الناس وأرادتها ما أنعكس على دور الإعلام وتفاعله مع الأحداث في المرحلتين حسب خصائص وسمات كل مرحلة.
نتحدث اليوم عن الإذاعة في تلك المرحلة على أن يكون حديثنا القادم عن التلفزيون إن شاء الله، وكما تحدثت أجهزة السلطة في الستينيات عن الإذاعة وعدتها الحاضنة التي أنطلق منها الصوت مدوياً معلناً عن قيام ثورة 14/ تموز المباركة صبيحة يوم الاثنين الرابع عشر من تموز 1958م التي أطاحت بالملكية لتعلن عن ولادة الجمهورية العراقية الشعبية التي طالما ناضل الشعب طويلا في سبيل تحقيقها حيث هب الشعب في بغداد وكل مدن العراق وقصباته من ريفه وحضره في الشمال والجنوب على السواء ليندمج مع قواته المسلحة ويساهم وإياهم في دك صروح الاستعمار والإقطاع والفساد، فان المناوئين لها أو المستقلين عنها والذين لهم آراؤهم الخاصة بتلك المرحلة يتهمون الإذاعة والعاملين بها بأنهم كانوا متخلفين ومتهافتين على المناصب والمنافع وقد حولوا الإذاعة إلى بوق دعاية للحكم القاسمي.وكما تغير اسم الإذاعة من محطة الإذاعة إلى دار الإذاعة في بداية تأسيسها ،فأن قيام الجمهورية العراقية كان سببا كافيا لان يتبدل اسم الإذاعة من دار الإذاعة إلى إذاعة الجمهورية العراقية في بغداد، ومازال إلى اليوم.
وفي 19/تشرين الثاني/1959 تم تأسيس وكالة الأنباء العراقية حيث أصبحت المصدر المركزي للأخبار إذ كانت تعد نشرات الأخبار الإذاعية والتلفزيونية وترسلها من مقرها القريب من مقر الإذاعة والتلفزيون في الصالحية ليبث مباشرة إلى المتلقي ومن هنا دخلت المركزية للعمل الإعلامي ومنها الإذاعة، فقد أكدت الحكومة العراقية من خلال المبادئ والأهداف العامة التي عملت بها وزارة الإرشاد على الاهتمام بها ومنها ما يخص الإذاعة:
1- تتبنى الإذاعة والتلفزيون مهمة عرض نشاطات الشعب وإبراز طاقاته في جميع الميادين الحياتية.
2- تطوير مؤسسات الإذاعة وتوسيع وتغذية أجهزتها الفنية بحيث تستطيع سماع صوتها في جميع المناطق.وهكذا تغير مفهوم الإعلام وأصبح جزءا من سياسة الحكومة توظفه لمصلحتها وقد استنبطت هذه الفكرة من آراء الإعلامي الأمريكي برنا رد بيرلسن الداعية إلى قيام الدولة بتوظيف الإعلام بوصفه أداة للإصلاح والمستندة الى النظرية السلطوية التي هي واحدة من النظريات الأربعة التي ظهرت على الساحة الإعلامية والتي تعد بمثابة الأطر التي حددت أسلوب نقل الخبر إذ يعد الخبر وفق النظرية أعلاه هو المعلومة التي تقرر الحكومات نشرها لأنها ترى في هذا النشر وسيلة لتدعيم سلطاتها.
ومن الجدير ذكره هنا ومما له علاقة بمقالنا هو تبديل أسم وزارة الإرشاد إلى اسم (وزارة الثقافة والإرشاد) استناداً للقانون المرقم (24) لسنة 1964م وذلك لدور الإعلام بتثقيف الناس من خلال أجهزته العديدة والمتنوعة، وفي عام 1968م صدر القانون رقم (23) القاضي بتبديل اسم وزارة الثقافة والإرشاد إلى وزارة الثقافة والإعلام.
الإذاعة في عقد السبعينيات وحتى سقوط بغداد 2003م
ربما يسأل سائل عن المقصود بمرحلة بين مرحلتين التي وصفنا بها مرحلة عقد الستينيات في الحلقة الماضية وللجواب على ذلك نقول: أن مرحلة الستينيات بدأت والحكم الجمهوري مازال في بدايته والمرحوم عبد الكريم قاسم يقود العراق ،وحكومته كانت تعمل كخلية نحل، فمن إنجاز إلى إنجاز ومن مكسب إلى آخر، هذا على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والخدمي، أما ما يتعلق بالإعلام والسياسة فبحبوحة الرأي كانت مازالت قائمة على الرغم من المركزية في الأعلام التي شقت طريقها في المشهد الثقافي آنذاك لذلك أخذت هذه المرحلة شيئا من ديمقراطية العهد الملكي وما يتعلق منها بالإعلام من جهة مع مركزية فرضتها القوانين والأنظمة التي جاءت بها الحكومات الجمهورية المتتالية من باب السيطرة على الشارع وتوظيف قدراته وإمكاناته لمصلحة التوجه الجمهوري الجديد الذي عدته الحكومات نفسها على انه البديل عن المرحلة الملكية التي كانت من وجهة نظر المجتمع مرحلة الاستعمار والعبودية والعمالة للأجنبي من جهة أخرى.
هذا الأمر اخذ في السبعينيات منحى آخر، إذ قل هامش الديمقراطية لمصلحة المركزية، والسبب هو أن النظام الجمهوري لابد من أن يكون مهيمناً على الإعلام ومسيطراً عليه ليوظفه في خدمة المجتمع، وكما جاء في التقرير السياسي للمؤتمر القطري الثامن لحزب البعث العربي الاشتراكي الذي كان يقود الحكومة العراقية آنذاك والصادر في كانون الثاني 1974م حيث يقول بخصوص الإعلام والثقافة ما يأتي: كان ميدان الإعلام بالدرجة الأولى ومن ثم ميدان الثقافة بين الميادين التي حرص حزب البعث العربي الاشتراكي ومنذ اليوم الأول للثورة على توجيهها توجيهاً دقيقاً وفق اتجاهات الثورة وأهدافها، وبالنظر لدقة هذا الجهاز وصلته اليومية والمباشرة بالمواطنين على مختلف مصالحهم وثقافاتهم وميولهم، كان هذا الجهاز موقع ملاحظة يومية وتفصيلية في أحيان كثيرة من قبل القيادة ومؤسسات الدولة العليا والدنيا.
إذاً هذه هي المركزية المقيتة التي طغت على المشهد الثقافي في العراق في السبعينيات وحتى نيسان/2003م والتي اختلفت بشكل كبير عن تلك التي كانت تحكم العراق في عقد الستينيات، وفي عهد قاسم والأخوين عارف الذين حكم كل منهم العراق للفترات من تموز/ 1958 إلى شباط/ 1963 فترة حكم الزعيم عبد الكريم قاسم ومن شباط/1963 إلى نيسان/1966 فترة حكم الرئيس عبد السلام محمد عارف ومن نيسان/1966 إلى تموز/ 1968 فترة حكم الرئيس عبد الرحمن محمد عارف.كانت الخطوة الأولى التي اتخذتها الحكومة بخصوص الإذاعة في مطلع السبعينيات هي صدور قانون (42) لسنة 1970م الذي ينص على تأسيس المؤسسة العامة للإذاعة والتلفزيون، حيث اهتمت الحكومة بالإذاعة من خلال كونها لسان حال الحكومة ، الناطقة باسمها والمدافعة عنها والباعثة للناس أفكارها وتوجهاتها وخططها على كل المستويات.كان الاهتمام بالإذاعة من وجهة نظر الحكومة ضرورياً جداً لعدم امتلاك أجهزة تلفاز من قبل الشعب إذ كان الكم الأكبر منه وبسبب شيوع ظاهرة الأمية آنذاك يعتمد على المذياع أكثر من اعتماده على الصحف والتلفاز بإشباع رغباته وإدامة علاقاته بالدولة وقد شهدت مرحلة السبعينيات تأسيس كل من:
1- محطة إذاعة الثورة في أبي غريب
2- محطة إذاعة الحرية في قضاء المدائن
3- محطة اللاسلكي في أبي غريب أيضا
الإذاعة العراقية.. نشوؤها وتطورها … بقلم علي العكيدي