ثلاث عشرة قصة تجاهلها الإعلام الأمريكي منذ احتلال العراق
د. إبراهيم علوش
يعتمد الإعلام الناجح، خاصة في عصر الفضائيات والإنترنت والاتصالات الفورية، على المتابعة السريعة لأخر خبر في أقصى الكرة الأرضية. وهو ما قد يوحي لمستهلك وسائل الإعلام الغربية أحياناً بأنه يحيط بأخر التطورات، أو أنه يستطيع الإحاطة بها لو تابعها بدأب. وتزوغ هنا حقيقة تحيز وسائل الإعلام الأمريكية، بين إبرازها لهذا الخبر، وإغفالها لذاك، وتناولها المجتزأ عمداً لحدثٍ جلل كاحتلال العراق، وتغطيتها التفصيلية المملة على مدى أسابيع لموت شخصية تافهة مثل المليونيرة والممثلة الثانوية وراقصة التعري آنا نيكول سميث، ناهيك عن كل الأجندات الخفية لاحتكارات الإعلام الضخمة المرتبطة بالشركات متعدية الحدود واللوبي اليهودي المتغلغل في ثنايا وسائل الإعلام الغربية.
وفي محاولة لتأسيس نقد أكاديمي منهجي للتحيز الخفي وتشويه الوعي الذي تمارسه وسائل الإعلام الأمريكية بالتحديد، أنشأت مجموعة من المثقفين والأساتذة الجامعيين الأمريكيين من ذوي النزعة اليسارية مشروعاً شعبياً ضخماً لكشف أهم القصص التي لم يغطها الإعلام الأمريكي أو التي مر عليها مرور الكرام أو فرض رقابة ذاتية عليها.
وقد بدأ هذا المشروع عام 1976 في جامعة سونوما الرسمية Sonoma State University في ولاية كاليفورنيا الأمريكية. ويصدر المشروع كتاباً سنوياً يتضمن أهم الأخبار والقصص التي عتم عليها الإعلام الأمريكي. ويسمى المشروع Project Censored، أي "مشروع روقب"، وكان حتى عام 2000 يصدر تقريراً بأهم عشر قصص مارس الإعلام الرقابة الذاتية عليها، ثم أصبحت منذ عام 2000 أهم 25 قصة، وهي تصدر تحت عنوان: الأخبار التي لم تصل الأخبار! وتوجد هذه التفاصيل وغيرها على موقع "المشروع" على الإنترنت:
www.projectcensored.org
وتنبع أهمية هذا المشروع من مشاركة أعداد كبيرة من الناس فيه، بالأخص من طلاب وأساتذة جامعة سونوما، ولكن أيضاً من الإعلاميين والمواطنين المعنيين. ويسهم هؤلاء عملياً عن طريق تقديم ما بين 700 إلى ألف قصة أو خبر أو تقرير تم التعتيم عليها سنوياً ليقوم مجلس خبراء بعدها باختيار أهم 25 قصة منها وبتصنيفها حسب أهميتها. ويغطي كل تقرير العام الذي سبقه أو أكثر، فالقصص المراقبة ذاتياً عام 2006 تظهر في تقرير عام 2007 مثلاً، وهكذا بالنسبة لبقية السنوات.
وقد تشكلت عضوية مجلس الخبراء السابق الذكر تاريخياً من أسماء لامعة في نقد الإعلام الأمريكي مثل نعوم تشومسكي ومايكل بارانته وفرانسيس مور لابيه وهوارد زن وغيرهم, وقد قدم هؤلاء مساهمات نظرية أساسية في تفسير علاقة رأس المال الاحتكاري ومصالح الشركات الكبرى بصياغة الأجندة الإعلامية في الغرب وعالمياً، وقد تعلمنا من تلك المساهمات الكثير في كشف آليات إنتاج رأي عام موالي للإمبريالية والنخبة الحاكمة وتوجهاتها من قبل وسائل إعلام "متعددة" وخاصة، لولا مشكلة "صغيرة"، يعاني منها كثيرٌ من اليساريين الغربيين، وهي الرقابة الذاتية التي يمارسونها بدورهم على معالجة دور اليهود والجماعات اليهودية في صياغة الأجندة والتوجه الإعلامي في الغرب!! وقد طرحت هذه القضية مباشرة على البرفسور نعوم تشومسكي في مراسلة خاصة منذ سنوات فأكد في رده أن أصدقاءه من نقاد الإعلام لا يتمنعون عن نقد أي شيء يستحق النقد (مما يوحي طبعاً بنفي التأثير اليهودي في الإعلام الغربي!).
وتظهر جردة سريعة لأهم خمس وعشرين قصة عتم عليها في تقارير عام 2000 حتى عام 2007 على موقع مشروع Project Censoredأن نقد التعتيم على القصص المتعلقة بالصهيونية وفلسطين لا يظهر إلا ثلاث مرات خلال سبع سنوات، وبشكل ليبرالي إنساني لا يمس حق "إسرائيل" بالوجود طبعاً، أو يؤيد "الإرهاب الفلسطيني"! مع العلم أن تغطية فلسطين من أضعف نقاط الإعلام الأمريكي...
ففي تقرير عام 2004، في المرتبة 24، أي قبل الأخيرة بواحدة، جاءت قصة تعتيم الإعلام الأمريكي على دور المساعدات الأمريكية في تمويل الإجراءات القمعية "الإسرائيلية" في الضفة وغزة، وفي تقرير عام 2006، في المرتبة 23، وردت قصة تعتيم الإعلام الأمريكي على 350 طفل فلسطيني في سجون الاحتلال "الإسرائيلي"، وفي تقرير عام 2007، في المرتبة التاسعة، أبرزت قصة تعتيم الإعلام الأمريكي على دور البنك الدولي في بناء الجدار العازل "ما بين فلسطين وإسرائيل" (لاحظ الصياغة... لا تعليق!)، مع العلم أن المستهدف أساساً هنا هو البنك الدولي لا "إسرائيل".
على كل حال، تستحق اللوائح السنوية لأهم خمس وعشرين قصة مراقبة ذاتياً في الإعلام الأمريكي أن نتابعها ونحللها، بالرغم مما تحتويه من ثغرات، لما تمثله من جهد نقدي وشعبي للإعلام والنظام الأمريكي، وخاصة للسياسة الخارجية الأمريكية، وبالتحديد في توظيف موضوع العراق ضد إدارة الرئيس بوش الصغير والجمهوريين – ولو في سياق أمريكي داخلي أساساً، يعني بالتأكيد ليس في سياق تأييد المقاومة العراقية مثلاً. وبالتالي، نجد الأخبار والقصص المتعلقة بقصور سياسة الإدارة الأمريكية منذ احتلال العراق، أكثر من مرة، وبشكل متزايد كل عام، ضمن أهم القصص التي تم التعتيم عليها. وتجدون أدناه لمحة سريعة عن أهمها:
تقرير عام 2007:
- المرتبة الثانية، التعتيم على قصة بيع شركة هاليبرتون التكنولوجيا النووية لإيران (كشفت لأول مرة في صيف عام 2005).
- المرتبة السابعة، التعتيم على قصة قيام ضباط أمريكيين بتعذيب المعتقلين حتى الموت في العراق وأفغانستان (كشفت لأول مرة في خريف عام 2005).
- المرتبة العاشرة، التعتيم على ازدياد الضحايا بين المدنيين العراقيين نتيجة الحملات الجوية الأمريكية الموسعة (كشفت لأول مرة في نهاية عام 2005).
- المرتبة السابعة عشرة، التعتيم على تقرير عن دور احتلال العراق في زيادة أرباح أوبك والشركات النفطية وروسيا (كشفت لأول مرة في خريف عام 2005). الرجاء الانتباه هنا أن اليساريين الأمريكيين والحزب الديموقراطي يركزون على النفط ويتجاهلون دور التأثير الصهيوني في سياسة أمريكا تجاه العراق.
- المرتبة الرابعة والعشرون، التعتيم على ازدياد قيمة أسهم نائب الرئيس ديك تشيني في شركة هاليبرتون من حوالي ربع مليون إلى أكثر من ثمانية ملايين دولار خلال عام واحد! (كشفت لأول مرة في خريف عام 2005).
تقرير عام 2006:
- المرتبة الثانية، تعتيم شامل للإعلام الأمريكي على القتلى المدنيين في الفلوجة وغيرها (كشفت لأول مرة في خريف عام 2004).
- المرتبة السادسة، التعتيم على دلائل تشير لدور الإدارة الأمريكية في فساد وتبديد أموال متصل ببرنامج النفط مقابل الغذاء، وتوجيه اللوم للأمم المتحدة بدلاً من ذلك (كشفت لأول مرة في خريف عام 2004).
- المرتبة السابعة، التعتيم على سياسة منهجية للحكومة المؤقتة في العراق، وقوات الاحتلال الأمريكي، باستهداف عشرات الإعلاميين في العراق ممن يحاولون تغطية الأحداث بشكل مستقل (كشفت لأول مرة في خريف 2004).
- المرتبة الثامنة، التعتيم على مئة قرار أصدرها بريمر حاكم العراق لبيع القطاع العام العراقي واستهداف المزارعين العراقيين لمصلحة الشركات الكبرى العالمية (كشفت لأول مرة في خريف عام 2004).
- المرتبة الثانية عشرة، التعتيم على قيام الحكومة الأمريكية باستقطاب المرتزقة وجنود الأنظمة الديكتاتورية حول العالم، غير الملزمين بالقانون العسكري الأمريكي، لانتهاك حقوق الإنسان في العراق (كشفت لأول مرة في ربيع 2004).
تقرير عام 2005:
- المرتبة الرابعة، التعتيم على اكتشاف مستويات عالية من اليورانيوم في أجساد أفراد القوات الأمريكية والمدنيين في العراق وأفغانستان (كشفت لأول مرة في خريف 2003، وتكرر الاكتشاف مراراً في شتاء 2004).
- المرتبة السابعة عشرة، التعتيم على سياسات الحكومة المؤقتة في العراق الهادفة لتسليم مقدرات البلاد للشركات الأجنبية والمؤدية لإفقار العراقيين (كشفت لأول مرة في خريف 2003).
- المرتبة الثانية والعشرون، التعتيم على القوانين المقيدة للحرية الإعلامية التي أصدرها بول بريمر في العراق (كشفت لأول مرة في ربيع 2003).
... وقبل ذلك، تعود التقارير لما قبل احتلال العراق في ربيع 2003.
وتمتلئ التقارير أعلاه بغمزٍ ولمزٍ من قناة القيادة العراقية والشهيد صدام حسين، ولا تذكر اللوبي الصهيوني والتأثير اليهودي في الإدارة الأمريكية من قريبٍ أو بعيد، وتركز نقدها على البعد الإنساني عادة، أو الاقتصادي، وتتجاهل المقاومة، ولا تخلو من تحيز بدورها، ليبرالي أو يهودي ضد الجمهوريين وحلفائهم، ولكن عندما يختلف اللصوص تظهر المسروقات، وهذا هو أهم ما فيها...